الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا وقد در عليه من تراب حفرته».وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث المتولدين من الأغذية، والأغذية حيوانية والقول في كيفية تولدها، كالقول في الإنسان أو نباتية فثبت تولد الإنسان من النباتية وهي متولدة {من الطين} فكل إنسان متولد.{من الطين} وهذا الوجه أقرب إلى الصواب؛ انتهى.وهذا الذي ذكر أنه عنده وجه آخر وهو أقرب إلى الصواب، هو بسط ما حكاه المفسرون عن فرقة.وقال فيه ابن عطية: هو مردود عند الأصوليين يعني القول: بالتوالد والاستحالات والذي هو مشهور عند المفسرين، أن المخلوق {من الطين} هنا هو آدم.قال قتادة ومجاهد والسدي وغيرهم: المعنى خلق آدم {من طين} والبشر من آدم فلذلك قال: {خلقكم من طين} وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناس ولد آدم وآدم من تراب».وقال بعض شعراء الجاهلية:
وفسره الشراح بأن عرق الثرى هو آدم، فعلى هذا يكون التأويل على حذف مضاف إما في {خلقكم} أي خلق أصلكم، وإما في {من طين} أي من عرق طين وفرعه. اهـ. .قال الألوسي: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} استئناف مسوق لبيان (بطلان) كفرهم بالبعث والخطاب وإن صح كونه عامًا لكنه هنا خاص بالذين كفروا كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات.والنكتة فيه زيادة التشنيع والتوبيخ، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة، ومعنى خلق المخاطبين من طين أنه ابتدأ خلقهم منه فإنه المادة الأولى (للكل) لما أنه أصل آدم عليه الصلاة والسلام وهو أصل سائر البشر، ولم ينسب سبحانه الخلق إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه المخلوق منه حقيقة وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحًا لمنهاج القياس ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس، وقيل في توجيه خلقهم منه: إن الإنسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة.وقال المهدوي في ذلك: إن كل إنسان مخلوق ابتداءً من طين لخبر «ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته» وفي القلب من هذا شيء، والحديث إن صح لا يخلو عن ضرب من التجوز، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خلق (آباءكم)، وأيًا ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة. اهـ..قال ابن عاشور: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} استئناف لغرض آخر للتعجيب من حال المشركين إذ أنكروا البعث، فإنّه ذكّرهم ابتداء بخلق السماوات والأرض، وعجّب من حالهم في تسويتهم ما لم يخلق السماوات ولا الأرض بالله تعالى في الإلهيّة.ثم ذكّرهم بخلقهم الأول، وعجّب من حالهم كيف جمعوا بين الاعتراف بأنّ الله هو خالقهم الخلق الأول فكيف يمترون في الخلق الثاني.وأتي بضمير (هو) في قوله: {هو الذي خلقكم} ليحصل تعريف المسند والمسند إليه معًا، فتفيد الجملة القصر في ركني الإسناد وفي متعلّقها، أي هو خالقكم لا غيره، من طين لا من غيره، وهو الذي قضى أجلًا وعنده أجل مسمّى فينسحب حكم القصر على المعطوف على المقصور.والحال الذي اقتضى القصر هو حال إنكارهم البعث لأنّهم لمّا أنكروه وهو الخلق الثاني نزّلوا منزلة من أنكر الخلق الأول إذ لا فرق بين الخلقين بل الإعادة في متعارف الصانعين أيسرُ كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] وقال: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خَلق جديد} [ق: 15].والقصر أفاد نفي جميع هذه التكوينات عن غير الله من أصنامهم، فهو كقوله: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} [الروم: 40].والخطاب في قوله: {خلقكم} موجّه إلى الذين كفروا، ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد التوبيخ.وذكر مادّة ما منه الخلق بقوله: {من طين} لإظهار فساد استدلالهم على إنكار الخلق الثاني، لأنّهم استبعدوا أن يعاد خلق الإنسان بعد أن صار ترابًا.وتكرّرت حكاية ذلك عنهم في القرآن، فقد اعترفوا بأنّهم يصيرون ترابًا بعد الموت، وهم يعترفون بأنّهم خلقوا من تراب، لأنّ ذلك مقرّر بين الناس في سائر العصور، فاستدلّوا على إنكار البعث بما هو جدير بأن يكون استدلالًا على إمكان البعث، لأنّ مصيرهم إلى تراب يقرّب إعادة خلقهم، إذ صاروا إلى مادة الخلق الأوّل، فلذلك قال الله هنا {هو الذي خلقكم من طين} وقال في آيات الاعتبار بعجيب تكوينه {إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} [الإنسان: 2]، وأمثال ذلك.وهذا القدح في استدلالهم يسمّى في اصطلاح علم الجدل القولَ بالموجَب، والمنبّهُ عليه من خطأ استدلالهم يسمّى فساد الوضع.ومعنى {خلقكم من طين} أنّه خلق أصل النّاس وهو البشر الأوّل من طين، فكان كلّ البشر راجعًا إلى الخلق من الطين، فلذلك قال: {خلقكم من طين}.وقال في موضع آخر {إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} [الإنسان: 2] أي الإنسان المتناسل من أصل البشر.و{ثم} للترتيب والمهلة عاطفة فعل {قضى} على فعل {خلق} فهو عطف فعل على فعل وليس عطف جملة على جملة. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}: .قال الفخر: لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر.قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الأسراء: 23] وبمعنى الخبر والاعلام.قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسرائيل في الكتاب} [الإسراء: 4] وبمعنى صفة الفعل إذَا تمّ.قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات في يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] ومنه قولهم قضى فلان حاجة فلان.وأما الأجل فهو في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره، وأجل الدين محله لانقضاء التأخير فيه وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولًا، وهو آجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل.إذا عرفت هذا فقوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} معناه أنه تعالى خصص موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص عبارة عن تعلق مشيئته بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت.ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ} [المؤمنون: 15].وأما قوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ}.فاعلم أن صريح هذه الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان.واختلف المفسرون في تفسيرهما على وجوه:الأول: قال أبو مسلم قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} المراد منه آجال الماضين من الخلق وقوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} المراد منه آجال الباقين من الخلق فهو خص هذا الأجل.الثاني: بكونه مسمى عنده، لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة، أما الباقون فهم بعد لم يموتوا فلم تصر آجالهم معلومة، فلهذا المعنى قال: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} والثاني: أن الأجل الأول هو أجل الموت والأجل المسمى عند الله هو أجل القيامة، لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخرة لها ولا انقضاء ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله سبحانه وتعالى.والثالث: الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت.والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ.والرابع: أن الأول: هو النوم والثاني: الموت.والخامس: أن الأجل الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد، والأجل الثاني: مقدار ما بقي من عمر كل أحد.والسادس: وهو قول حكماء الإسلام أن لكل إنسان أجلين: أحدهما: الآجال الطبيعية.والثاني: الآجال الاخترامية.أما الآجال الطبيعية: فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونًا من العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني، وأما الآجال الاخترامية: فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية: كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة، وقوله: {مُّسمًّى عِندَهُ} أي معلوم عنده أو مذكور اسمه في اللوح المحفوظ، ومعنى عنده شبيه بما يقول الرجل في المسألة عندي أن الأمر كذا وكذا أي هذا اعتقادي وقولي.فإن قيل: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفًا وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ}.قلنا: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة كقوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221]. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {ثُمَّ قضى أَجَلًا} مفعول.{وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} ابتداء وخبر.قال الضحاك: {أَجَلًا} في الموت {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} أجل القيامة؛ فالمعنى على هذا: حَكَم أجلًا، وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ولم يعلمكم بأجل القيامة.وقال الحسن ومجاهد وعِكْرمة وخصيف وقَتَادة وهذا لفظ الحسن: قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} يعني الآخرة.وقيل: {قضى أَجَلًا} ما أُعلمناه من أنه لا نبيّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، {وَأَجَلٌ مُّسمًّى} من الآخرة.وقيل: {قضى أَجَلًا} مما نعرفه من أوقات الأهلّة والزرع وما أشبههما، {وَأَجَلٌ مُّسمًّى} أجل الموت؛ لا يعلم الإنسان متى يموت.وقال ابن عباس ومجاهد: معنى الآية: {قضى أَجَلًا} بقضاء الدنيا، {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} لابتداء الآخرة.وقيل: الأوّل قبض الأرواح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت؛ عن ابن عباس أيضًا. اهـ..قال أبو حيان: {ثم قضى أجلًا وأجلّ مسمى عنده ثم أنتم تمترون} {قضى} إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب، كانت {ثم} هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان لأن ذلك سابق على خلقنا، إذ هي صفة ذات وإن كانت بمعنى أظهر، كانت للترتيب الزماني على أصل وضعها، لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهي صفة فعل والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما.وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة: الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها، ولا يعلم كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى، وروي عن ابن عباس أن الأول هو وفاته بالنوم والثاني بالموت.وقال أيضًا: الأول أجل الدنيا والثاني الآخرة.وقال مجاهد أيضًا: الأول الآخرة.والثاني الدنيا.وقال ابن زيد: الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم، والمسمى في هذه الحياة الدنيا.وقال أبو مسلم: الأول أجل الماضين، والثاني أجل الباقين، ووصفه بأنه مسمى عنده لأنه تعالى مختص به بخلاف الماضين، فإنهم لما ماتوا علمت آجالهم.وقيل: الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ.وقيل: الأول مقدار ما انقضى من عمر كل إنسان، والثاني مقدار ما بقي.وقيل: الأول أجل الأمم السالفة، والثاني أجل هذه الأمة.وقيل: الأول ما علمناه أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني من الآخرة، وقيل: الأول ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن، والثاني قيام الساعة.وقيل: الأول من أوقات الأهلة وما أشبهها، والثاني موت الإنسان.وقال ابن عباس ومجاهد أيضًا {قضى أجلًا} بانقضاء الدنيا والثاني لابتداء الآخرة.وروي عن ابن عباس أنه قال: لكل أحد أجلان، فإن كان تقيًا وصولًا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر، وإن كان بالعكس نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث.وقال أبو عبد الله الرازي: لكل إنسان أجلان الطبيعي والاخترامي.فالطبيعي: هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصونًا عن العوارض الخارجة لانتهت مدة بقائه إلى الأوقات الفلكية.والاخترامي: هو الذي يحصل بسبب الأسباب الخارجية كالحرق والغرق ولدغ الحشرات، وغيرها من الأمور المنفصلة، انتهى.وهذا قول المعتزلة وهو نقله عنهم وقال: هذا قول حكماء الإسلام، انتهى ومعنى {مسمى عنده} معلوم عنده أو مذكور في اللوح المحفوظ، وعنده مجاز عن علمه ولا يراد به المكان. اهـ.
|